ملخص المقال
مقامة كروية رائعة تظهر غفلة المسلمين وانشغالهم بتفاهات كأس العالم عن قضايا المسلمين المهمة في فلسطين والعراق وأفغانستان
حدثنا فطرةُ البدوي قال: نزلتُ ضيفًا عند أهل لي بالمدينة، أطلب الراحة والسكينة. فرأيتُ أوَّلَ ما رأيت ناسًا محتشدين بمقهى، صامتين صمتًا ما يُنْبِئ أنهم في ملهى. بل إنك لَتَحْسِبُ أن الخَطْب جَلَل، لا يَكِلُّون ولا يُصيبُهم المَلَل. قد استقبلوا التلفزيون في خشوع، مرَّاتٍ يضحكون ومرات تهمي الدموع.
فقلتُ لفطرة البدوي: وعَلامَ الصمتُ والوُجوم؟ وبماذا يُسَلُّون عن الهموم؟
قال: رأيتُهم يلاحقون كرة تدور، يركلونها بأقدامهم في إقدام وجُسُور.
فماذا تُراهم كانوا يفعلون؟ وعلامَ كادوا يقتلون؟ فإني قلتُ السلام عليكم واستدبرت التلفاز، فقالوا مكانَكَ ليس هنا يا نشاز، ومن غادر نجا وفاز.
فعدَّلتُ من جلستي وخشعت كما يخشعون، وطلبت النادل فإذا هو كالمسحور المفتون. ثم كررت الطلب ولا مُجيب، فأيقنتُ أني في مقام مهيب.
وفجأة رأيتُ شِباكًا تَهْتَز، وعقلاء يَنُطُّون فرحين بما صاحِبُهم أَنْجَز. ثم إذا بصوت صفَّارة يُسْمَع، وإذا بالعاقل الذي صَفَّر يُصْفَع، ثم على الأرض يُوقَع. فطَفِقَ العقلاء في التدافع، ووقع التَّهارُش والتصارُع، واختلط الحابل بالنابل، وكأنما ذُرَّت على سوءاتهم التوابل.
فقلت: ما لهؤلاء المجانين خيبوا المُرتجى، كنت أحسبهم يُعدُّون للهَيْجا. فَهَوَت كفٌّ من خلفي على قفاي، فانطمس النور وجحظت عيناي.
قال صاحب كفٍّ كالمِدَق: اخرسْ فأنت المجنون بحق، لقد هُزِمنا ورَبِّ الخلق.
قلتُ: ذلك أننا أهْوَنُ الخلق، وهل يلهو الحُرُّ والقدس في أَزَق؟! ولا يتصبَّبُ الوجه خجلاً من عرق.
قال الصافع: ما ذلك قصدتُ يا أبا السخف، ألا ترى أنهم قد سجلوا الهدف؟ قلتُ: وهل تُنالُ الأهداف بالصُّدف؟ ولقد أضعنا بغداد وكابل والنَّجف، وعيشتُنا ضنْكٌ وحياتُنا خَرَف. وأرزاقُنا من وراء البحر تأتينا، ونرجو الراحة وحياة بلا كَلَف. ونرضى المهانة ولا عيش الشظف، ولا نتبرم أو نثور أو نتأفف، والشكر الجزيل لمن أطعمنا شعيرًا أو بعض طعامٍ حَفَف.
وهل عيش البهائم غير برسيم وعلَف؟! ثم نجري وراء كرة حالمين بعيش رغيد وترَف، وعيشُنا على القروض والسلف.
فردَّ عليَّ مفتون بن الكُرَات: يا أبله، هذا كأس العالم! وفريقنا مغلوب محسود مُزَاحَم.
قلتُ لفطرة: وكيف نُغْلَبُ ولم نتأهلْ، أم كانوا يُطَيِّبون النفس بالعِلل؟ قال: لقد رأيتُ صلَفًا تحت الراعِدة، تعليق وتحليل والجماعة شاهدة. ولقد أغرقوا في التأويل والتفسير، ولا هُم في العير ولا في النفير. بل هم كالحادي وليس له بعير، عوذًا بالله من شر المقادير!
قلت: أَوَتدري ما كأس العالم يا فطرة؟ إنها كأس لم يشرب منها أحد شَرْبَه، ولا ذاقها إنْسِيٌّ بخلاء أو معمور، إلا انتشى نشوة المخمور.
هي كأسٌ أموالٌ لها تُصْرَف، تُطعِمُ جياع العالَم لو كان الصارف أشرف، لو ساسها الأمين الأنظف، وما بذَّر ولا أسرف، لَشَادَ بها معاملَ ومدارس، وحمى أجسادًا من برد قارس.
لكنَّ سادة العالَم الحكماء، وهم أقوام بيع وشراء، أبدعوا مفهوم البث المحتكَر، وقالوا ادفعوا مقابل النظر.
يا فطرةُ أراكَ لا تعلَم، هذا اقتصادنا المُعوْلَمْ. تَكَسُّبُه من عَرَق الغوغاء، ولها يبيع حتى الهواء.
فتحسَّر فطرة وما تكلم، وأطرق رأسه ثم غمغم: يا سلوك الإنسانية الأخرق، أيها الضمير المتواري الأحمق! متى تغدو كرة القدم، سُلْوانَ الناس في الغُمَم؟! أخلاقٌ وصلاح وقيم، لا شعائر زُلفى للصنم! رياضة لجسدٍ جموح؛ ليكون في خدمة الروح.
التعليقات
إرسال تعليقك